عبادة الله موصولة لا تنقطع بعد رمضان

عبادة الله موصولة لا تنقطع بعد رمضان

بقلم :الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي

رام الله / شبكة فلسطين المستقبل الإخبارية

في شهر رمضان المبارك من كل عام يكرمنا الله عز وجل بشهود بيوته عامرة بعباده المؤمنين ، وبشهود ازدحامهم فيها حتى لا يبقى في كثير منها شبراً فارغاً ، إن مشاهد الإقبال هذه على الله ودينه وشرعه تثلج الصدر وتبشر بقرب التمكين والنصر ، وأصوات المؤَمِّنين خلف الإمام تسرّ القلوب وقد ارتجَّتْ بها جنبات الأرض حباً لله وخشوعاً بين يديه ، والأكف المرتفعة إلى الله بالتضرع والرجاء والدعاء تنخلع لها الصدور من خشيته وتقواه ، والعيون التي تسكب عَبَرَاتِها في رحاب الله متوسلة رضوانه ورحمته تنهمر لها دموع الفرح وتفيض بها مشاعر الإيمان واليقين في أجواء تحيا لها الأرواح ،

ولكن ما يحز في النفس أن هذه المشاهد ما تلبث أن تختفي بانتهاء شهر رمضان ، فتعود مساجد الله خالية من زُوَّارها ورُوَّادها إلا قيلاً منهم ، ومما يؤسف له أن تعود حياة الناس إلى سابق عهدها بعد أن ظننّا أن رمضان كان فرصة سانحة لتصويب المسار إلى سواء السبيل ،

إن السعادة الحقيقية للمؤمن تكمن في مواصلته عبادة ربه ومواظبته على الأعمال الصالحة بعد رمضان ، لأن من كان يعبد رمضان فإنه أيام معدودة وانقضت ، أما من كان يعبد الله فهو رب الشهور كلها وينبغي أن يُعْبَدَ فيها كلها ، فالتوقف عن الصالحات بعد رمضان نقض للعهد مع الله وعمل مبتور لا أصل له ، وإلا فقد صدق فيهم قول الله سبحانه وتعالى { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً … } النحل 92 ومعناها لا تكونوا كمن غزلت غَزْلاً فأحكمته ثم عادت ونقضته ، فعبادة الله سبحانه وتعالى واجبة لا تتوقف ولا تنتهي إلا بانتهاء الحياة :

1- فعبادة الصوم في رمضان ممتدة طوال العام بالنوافل : فمنها مثلاً صيام ستة أيام من شهر شوال ، ومنها صيام يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع ، وصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قمري وغيرها ،

وأوْلى الصيام قضاء عدة ما أفطر من أيام رمضان فهو فرض ، قال سبحانه وتعالى { … فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ … } البقرة 184 ، ويرى معظم العلماء أن القضاء لا يجب على الفور لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها { كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان } رواه البخاري ، وكان ذلك منها لأنها دائمة الانشغال بشؤون الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلاَّ أنني أرى المسارعة إلى إسقاط الواجب لما في التأخير من سلبيات . فالأصل المبادرة إلى قضاء الفوائت من صيام وصلاة ، وفقهاء الحنفية يحرمون على المسلم التطوع بالصيام قبل قضاء ما عليه من رمضان ، بل عليه البدء بالفرض حتى يقضيه .

2- ومناجاة الله تعالى وتلاوة كتابه عبادة لا تتوقف بعد رمضان بل تستمر آناء الليل وأطراف النهار ، فيواظب المؤمن على قراءته في الصلاة وخارج الصلاة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم { اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه } رواه مسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم { إنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين } رواه مسلم ، فلنحرص على قراءة ما تيسر من القرآن الكريم فإن لتلاوته فضلاً عظيماً ، قال صلى الله عليه وسلم { يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤُها } رواه أَبُو داود ، فإن الذي يداوم على ذلك يُذَلُّ له لسانه ويسهل عليه قراءته ، فإذا هجر تلاوته ثقلت عليه القراءة وشقَّتْ عليه .

3- وإذا كان شهر رمضان يختص بعبادة القيام وهي صلاة التراويح ، فإن قيام الليل في غيره عبادة لا تنقطع ، قال صلى الله عليه وسلم { عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وإن قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد } رواه الترمذي . فقيام الليل يربي إرادة المؤمن على تحمل المسؤوليات العظام ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم هيأه ربه بقيام الليل لحمل أعباء الرسالة ، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } المزمل 1-5 .

4- وصلة الأرحام لا تختص برمضان وحده ، بل هي مقارنة للعمر كله ، ورغم أن ابتداء صلة الرحم بفعل المعروف مع الأقارب يعتبر سنة إلا أن قطعه عنهم بعد حصوله يعد ذنباً كبيراً ، وتكون القطيعة بهجرانهم أو بالإساءة إليهم أو تعدي ذلك إلى ترك الإحسان ، فإذا قطع المكلف ما اعتاده قريبه من الصلة والرعاية لغير عذر شرعي يصدق عليه أنه قطع رحمه ، قال صلى الله عليه وسلم { … ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيصلْ رحمه … } رواه البخاري ،

وقد توعد الله تعالى قاطع الرحم ، روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم { الرحم متعلقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله } رواه مسلم ، فلنحرص على صلة الأرحام فإنها تعمق المودة والمحبة في النفوس ، وهي من العلاقات الواجبة في المجتمع الإسلامي ومما يميزه عن غيره من المجتمعات سواء في الماضي والحاضر ، لذا فقطعها حرام ومخالف للنصوص الشرعية .

واستكمالاً لمعاني الصلة فحق الأقارب والأصدقاء والجيران وأسر الشهداء والأسرى والجرحى أن نزورهم ونتفقدهم ونحسن إليهم بكل معاني الإحسان ، وألاَّ ننسى من ذلك الأرامل والثكالى واليتامى والمساكين .

5- ولنواظب على الصدقات ، فهي دليل صحة إيمان العبد وبرهان صدقه وقوة يقينه وحسن ظنه بربه ، وهي من أحب الطاعات إلى الله ، قال صلى الله عليه وسلم { ما من يوم يصبح العباد فيه إلا مَلَكان ينزلان : فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخ اللهم أعط ممسكاً تلفاً } رواه البخاري ، فبذل المال إن ارتبط بنية التقرب إلى الله تعالى فهو صدقة مندوبة عظيمة الأجر ، قال صلى الله عليه وسلم { من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ وإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فِلْوَهُ حتى تكون مثل الجبل } رواه البخاري والفِلْو هو المهر الصغير الفطيم ، وقال أيضاً { كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفْصَلَ بين الناس } رواه أحمد .

6- وعبادة الاعتكاف لا تتوقف بعد رمضان وتكون بارتياد المساجد ، فالمكث فيها بنية العبادة وانتظار الصلاة هو عمل صالح ، يكون المؤمن فيها ملازم للمسجد بقلبه لا بجسده فقط ، وما ذاك إلا لمنزلة المسجد في هذا الدين العظيم ، قال تعالى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا َتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ عظيم الأجر } النور 36-37 ، وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجالس في المسجد ينتظر الصلاة كالقائم على الثغور في المناطق التي يقاتل فيها المسلمون فقال لنا { ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ قالوا بلى يا رسول الله ، قال إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط } رواه مسلم .

ومن خير المساجد التي ينبغي أن نكثر التردد إليها في هذا الوقت العصيب المسجد الأقصى المبارك في مدينة القدس والحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل عليه السلام ، فعلينا أن نداوم على ارتيادهما ونواظب على الصلاة فيهما فهما يتعرضان لمخاطر التهويد .

إذن ينبغي على المسلم بعد رمضان أن يداوم على الطاعات ويجتنب السيئات امتداداً لما كان عليه في رمضان فهذا هو الفوز الحقيقي ، وعليه ألاَّ ينسى أن رعاية هذه الحسنات حق رعايتها وحفظها بأن لا يتسبب بمحوها بالسيئات والأعمال الباطلة ، فقد قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى … } البقرة 264 ، وفي الحديث الصحيح { أن رجلاً قال والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله : من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان ؟ قد غفرتُ لفلان وأحبطْتُ عملك } رواه مسلم ، ومعنى يتألَّى عليّ أي يحلف أني لا أفعل كذا ، بل على المؤمن أن يكثر من الأعمال الصالحة فهي كفيلة بإسقاط المعاصي والآثام ، قال سبحانه وتعالى { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ } هود 114 ، وقال صلى الله عليه وسلم { اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن } رواه الترمذي .

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

عن abdullah

شاهد أيضاً

أمريكا وإدماج ” إسرائيل “…. قوة للسعودية …. ام إستهداف لها ولفلسطين ؟

أمريكا وإدماج ” إسرائيل “…. قوة للسعودية …. ام إستهداف لها ولفلسطين ؟ بقلم / …