المسجد الأقصى المبارك وبيت المقدس في عقيدة المسلمين

المسجد الأقصى المبارك وبيت المقدس في عقيدة المسلمين

بقلم / الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس .

الخليل / شبكة فلسطين المستقبل الإخبارية.

القدس ؛ هذه المدينة العزيزة الغالية على قلوب المسلمين ، وعاصمتهم الروحية الثالثة بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة ، فالمدن الثلاثة هذه تشكل جزءاً عظيماً من أركان الأمة الإسلامية العقائدية والروحية ، فلئن كانت مكة أم القرى وبداية علاقة الإنسان بالأرض ، فالقدس بوابة السماء ونهاية علاقة الإنسان بالأرض : فمنها رفع سيدنا عيسى عليه السلام إلى الله ، قال تعالى { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا … } آل عمران 55 .

القدس ؛ هذه المدينة التي تعني كلمتها الطهارة والنزاهة والتشريف ، قدسها الله تعالى وبارك فيها للعالمين ، دخلها الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسراء ، وفتحها الفاروق عمر أمير المؤمنين ، وحررها الناصر صلاح الدين الأيوبي ، فهي مدينة لله ولرسول الله وللأمة التي توحد الله . لذا وجب الدفاع عنها وبذل الأرواح والأموال للحفاظ عليها طاهرة مطهرة من الأعداء والدخلاء ، ومبرأة محررة من براثن أي احتلال .

القدس ؛ هذه المدينة الحبيبة لأبناء الأمة ، المدينة التي تعيش في ضمائرهم ، وترنو إليها عيونهم وقلوبهم وأرواحهم ، ومسجدها الأقصى المبارك هو درة مقدساتهم ، وصف الله سبحانه وتعالى أرضها بالأرض المباركة المقدسة :

1- قال تعالى عن سيدنا إبراهيم عليه السلام { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } الأنبياء 71 ، ولم يخالف أحد في أن هجرة سيدنا إبراهيم الخليل من العراق كانت إلى فلسطين .

2- وقال سبحانه عن سيدنا سليمان عليه السلام { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } الأنبياء 81 ، قال العلماء كانت الريح تجري إلى أرض الشام وبيت المقدس .

3- وقال عز وجل عن حضارة سبأ في اليمن { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ } سبأ 18 ، المقصود بالقرى التي بورك فيها بيت المقدس .

4- وبعد غرق فرعون قال سبحانه وتعالى { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } الأعراف 137 ، وهذه الأرض هي بلاد الشام وبيت المقدس .

5- وسيدنا موسى يخاطب قومه قائلاً { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } المائدة 21 ، والأرض المقدسة هي فلسطين التي رفض بنو إسرائيل دخولوها { قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } المائدة 24 ، فحرمها عليهم عقوداً وعاقبهم بالتيه عنها ، قال تعالى فيهم { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } المائدة 26 .

6- وإليها أسرى الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة ، قال تعالى { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } الإسراء 1 ، كانت هذه المعجزة الربانية إعلاناً عن مكانة القدس في الإسلام مع أولى مراحل الدعوة والمسلمون يومئذ قلة قليلة مستضعفة في مكة قبل الإعلان عن بقية أركان الإسلام وتشريعاته ، وما ذاك إلاّ لترسخ مكانتها في القلوب رسوخ عقيدة التوحيد .

ومن مدينة القدس عُرِجَ بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء ، قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء بعد خروكه من المسجد الأقصى المبارك { … ثم عُرِجَ بنا إلى السماءِ … } رواه مسلم .

ومن بركة مدينة القدس المعنوية ما اشتملت عليه من جوانب روحية ودينية ، ففي ربوعها وعلى رباها تلقى الرسل والأنبياء وحي السماء ، فهي مهد النبوات ومبعث الرسل الذين مشت خُطاهم على ثراها المبارك ، واتخذوا المسجد الأقصى قبلة لهم ، فكل شبر فيها يحمل بصمات نبيّ وأصداء ملاك :

1- فبين أرجائها تنقل سيدنا إبراهيم وآله ، وفي أرضها يرقد هو وبعض ذريته ، قال تعالى { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } هود 70 ، ومعلوم أن سيدنا لوط كان يسكن فلسطين .

2- وفي مدائنها واجه لوط فحشاء قومه فحذرهم وأنذرهم فاستحقوا العذاب لإعراضهم ، قال تعالى في مصيرهم { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً من سِجيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } الحجر 74-76 ، فمدينتهم على طريق معروفة وآثارهم مرئية للمارين ، فمدائن لوط قرب البحر الميت .

3- وفي رحابها عاش آل زكريا وآل عمران أصفياء الله ، قال تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } آل عمران 33 ، وولد لهم سيدنا يحيى عليه السلام ، قال تعالى { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } آل عمران 39 .

4- وفيها نشأت مريم الصِّدِّيقة عابدة في محراب بيت المقدس ، قال تعالى { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنًّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } آل عمران 37 ، وفيها بُشّرت بكلمة الله وعبده ورسوله سيدنا المسيح عيسى عليه السلام ، قال تعالى { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } آل عمران 45 .

5- وقال صلى الله عليه وسلم عن كليم الله موسى عليه السلام { … سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر } رواه البخاري .

ومنها تحشر البشرية وتنشر ، قال صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس { … أرض المحشر والمنشر … } رواه أحمد

وجاءت الإشارة إلى بيت المقدس تلميحاً في عدة مواضع في كتاب الله تعالى :

1- أقسم الله بمنابتها قائلاً { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ } التين1 ، قال المفسرون إن الزيتون هو جبل بيت المقدس ومسجدها .

2- وذكر المفسرون ومنهم ابن جرير الطبري رحمه الله بالسند قول إبي هريرة رضي الله عنه : الْزَمُوا هذه الرملة من فلسطين فإنها الربوة التي قال الله { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } المؤمنون 50 ،

3- وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } الحديد 13 السور سور بيت المقدس به باب الرحمة وخلفه وادي جهنم .

4- وقال تعالى { وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } ق41 ورد في كتب التفسير أن المنادي هو إسرافيل ينادي من صخرة بيت المقدس . فستكون مدينة القدس كأنها نموذج مصغر للأرض التي سيجري عليها حساب البشر .

5- وفي قوله تعالى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } النور36 ، ورد أنها المساجد الأربعة المسجد الحرام ومسجد قباء ومسجد رسول الله في المدينة ومسجد بيت المقدس .

6- وفي قوله تعالى { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآ } البقرة 114 ، قال كثير من المفسرين هو المسجد الأقصى المبارك .

7- وبشأن تفسير قوله تعالى { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } الإسراء 7 أجمع المفسرون على أن المسجد المقصود هو المسجد الأقصى المبارك ، ففيها سيكون الإفساد الثاني لبني إسرائيل ؛ حيث إنهم سيكونون قد أتوْا من كل بقاع الأرض ليواجهوا مصيرهم بالانهيار والدمار .

وبيت المقدس أرض رباطٍ وجهادٍ إلى يوم القيامة ، فقد أورد السيوطي قوله صلى الله عليه وسلم { يا معاذ إن الله سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة فمن اتخذ ساحلاً من سواحل الشام أو ببيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة } .

لكل ذلك استحقت هذه المدينة المباركة أن تكون جنة الدنيا وجنة الآخرة ، روى ابن عباس قول الرسول عليه الصلاة والسلام { من أراد أن ينظر إلى بقعة من الجنة فلينظر إلى بيت المقدس } ، واعتبر صلى الله عليه وسلم الإحرام منها بعمرة تكفيراً لما تقدم من الذنوب ، روت أم سلمة رضي الله عنها { من أهلّ بعمرة من بيت المقدس كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب ، فقالت أم حكيم رضي الله عنها : فخرجتُ من بيت المقدس بعمرة } رواه ابن ماجه .

فهل يمكن أن يرضى المسلمون اغتيالها أو استبدالها أو المساومة عليها ؟ قد علم المسلمون جميعاً أنها ليست للفلسطينيين وحدهم ، إنما هي للمسلمين كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، يحافظون عليها لأنها جزء من عقيدتهم ودينهم ويهبَون دوماً للدفاع عنها .

أما اليهود فحقيقة علاقتهم بالقدس أساسها السياسة وليست القداسة ، فلم يكن لها مكانة مميزة في اهتماماتهم قبل قيام كيانهم الغاصب ، بدليل نصوص التوراة التي تكذب كل الادعاءات حول وجودهم التاريخي فيها .

عن abdullah

شاهد أيضاً

أمريكا وإدماج ” إسرائيل “…. قوة للسعودية …. ام إستهداف لها ولفلسطين ؟

أمريكا وإدماج ” إسرائيل “…. قوة للسعودية …. ام إستهداف لها ولفلسطين ؟ بقلم / …