((( … قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله … )))

((( … قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله … )))

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

الخليل / شبكة فلسطين المستقبل الإخبارية

أحتفلت الأمة أمس وأول من أمس بذكرى مولد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، واحتفل الفلسطينيون على وجه الخصوص بهذه الذكرى تحت حراب جيش الاحتلال الإسرائيلي المدجج بسلاح الظلم والغيّ والبغي ، احتفلوا بمولد نبي الرحمة وخير البرية في ظل اقتحام المسجد الأقصى المبارك المكثف بمناسبة ما يسمى بعيد الغفران المزعوم ، وأيُّ غفران هذا الذي يحتفلون فيه بمزيد من الذنوب : قتل وتدمير يمارس ضد أبناء شعبنا الصابر المرابط على أرضه المقدسة ، أي غفران هذا وقد أضافوا إلى سجل ذنوبهم الحافل جرائم جديدة مع كل شهيد يرتقي إلى العلا بأيدي جنود العدوان الغاشم ومع كل جريح يصاب مدافعاً عن دينه ووطنه وقضيته العادلة ، أي غفران هذا الذي يعاودون بعده ارتكاب مزيد من صور الإرهاب المنظم ، ويواصلون انتهاكاتهم لكل القيم : الدينية والقانونية والأخلاقية والإنسانية ، كل هذا والعالم كله يرى ويسمع ولكنه يُعْرِضُ متجاهلاً كأنه أعمى وأصم .

احتفلت الأمة بذكرى هذا المولد وابتهلت إلى الله أن يؤيدها بنصره وبتحرير مسرى رسولها وقبلتها الأولى ، إنها ذكرى مولد المصطفى الذي أرسله الله عز وجل لينير دروب الخير والرحمة للبشرية ، فأخرجها بالفعل من الظلمات إلى النور ، أخرجها من ظلمات الجهل والجهالة والضلالة إلى نور العلم والهداية ، ونقل الأمة من الحضيض إلى القمة ، ومن التطرف إلى الوسطية والخيرية ثم الريادة والسيادة ، فقد ولد صلى الله عليه وسلم في وقت ساد فيه الظلم والتسلط ولم يُعرف فيه العدل أو الإنصاف ، وكان الناس ـ وبالأخص العرب ـ في مرحلةٍ من أحطِّ مراحل تاريخهم ، حتى أصبح الظلم والقهر والتعسُّف والاستبداد والاستعباد من أبرز ملامحها وأوضح معالمها ، ولد محمد صلى الله عليه وسلم فكان أعظم مولد على ظهر الأرض ، تهاوت به أركان الظلم وعروشه ورموزه من عليائها ، وانتشر العدل في أرجائها .

وفي ذكرى مولد الهادي البشير صلى الله عليه وسلم التي غمرتنا فيها النفحات الروحانية والمشاعر الإيمانية حري بنا أن نحتفل بها حق الاحتفال : نحتفل بنصرته قلباً وقولاً وفعلاً وشعوراً وبالدفاع عنه بأغلى ما نملك ، بالنفس والمال والموقف ، نحتفل بصدق الحب وبكمال الاقتداء والاتِّباع ، قال تعالى { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } آل عمران 31 ، فالآية الكريمة حكمت على كل من ادعى محبة الله كائناً من كان ، فإن لم يكن على الطريقة المحمدية فهو غير صادق في ادعائه حتى يتبع النهج النبوي في أقواله وأفعاله وسائر شؤون حياته

وفي شهر مولد الهدى حري بنا أيضاً أن نقيم المولد الحقيقي في أرواحنا وجوارحنا ، في مساكننا وأماكننا ، وأن نجعل أعمارنا وأيامنا كلها ربيعاً يولد فيه حبّه صلى الله عليه وآله وسلم عملاً وقولاً ومنهاجاً . فهو الذي قام بأمر الدعوة إلى الله عز وجلّ بالحكمة والموعظة الحسنة والعمل الدءوب ، ففتح لها مغاليقَ النفوس والقلوب ومكّن لها في الأرض ، وهذه سيرتُه العطِرةُ الشاملة بين أيدينا حافلةً بالجهاد والمجاهدة والصبرِ والمصابرةِ ، وبممارسةِ الحياة الدنيا تحصيلاً للحياة الآخرة ، فما أحوجنا في هذه الأيام العصيبة ؛ أيام الفتنة حالكة السواد التي نرى فيها الحليم حيراناً إلى القيام على أمر الدعوة إلى الله تعالى ودينه وشرعه على النهج النبوي والسنة النبوية والسيرة النبوية .

وحري بنا الاستجابة لأمره وطاعته قال تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } الأحزاب 36 ؛ فهذا النهي يعم كل تشريع صادر عنه صلى الله عليه وسلم ، فإذا حكم فليس لنا أن نختار لأنفسنا غير حكمه ، أما رفض قضائه ومخالفة أحكامه وتعاليمه فمعصية وضلال أعاذنا الله عز وجل منه لأنه صفة المنافقين الذين يأبون طاعته وتنفيذ حكمه ، قال تعالى فيهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً } النساء 61 ، فالإيمان يوجهنا إلى السمع والطاعة لرسولنا ، قال تعالى { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } النور 51 ، كيف لا نفعل ذلك وهو الرحمة الربانية المرسلة لنا من الله عز وجل الذي قال عنه { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء 107 ، الرحمة الربانية التي أهديت إلينا فعمت حياة كل بني الإنسان في كل مكان وكل زمان وفي كل حال ، قال صلى الله عليه وسلم { أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ، و أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه ديناً أو يطرد عنه جوعاً ، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ شهرا ، ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام ، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل } رواه الطبراني وحسنه الألباني .

نعلم أن الاحتفال بهذه الذكرى الغالية يفرح المؤمنين ويجدد حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد اعتاد المسلمون في معظم بقاع الأرض على مدى عقود طويلة في الماضي وفي الحاضر إحياءها بالاستعراضات الكشفية والمحاضرات والندوات والأعمال الأدبية وغيرها من المظاهر الاحتفالية ، فهل هذا هو المطلوب منهم لإرضاء ربهم ونيل شفاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم ؟ إن الاحتفال الحقيقي بهذه المناسبة العزيزة يكون بفقه سيرته العطرة وبتمثُّلِها وتطبيقها في حياتنا ، فالاقتداء به ليس من المندوبات والنوافل فقط ، بل هو فريضة من فرائض الدين وأصوله لقوله سبحانه وتعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } الأحزاب21 .

فواجب علينا أن نقتدي به في عبادته ومداومته على طاعة الله تعالى وإكثاره من التضرع والدعاء إليه ، ونقتدي به في رضاه وغضبه ، في ثباته على دعوته وتمسكه بها وعدم تنازله عنها على الرغم من الضغوطات والإغراءات والمساومات التي مورست عليه وعلى أهله وأتباعه ، نقتدي به صلى الله عليه وسلم في حبه أصحابه وحرصه عليهم ، فقد كان يتفقدهم ويهتم بشؤونهم ويسأل عنهم ويقربهم إليه حتى أن أحدهم ليظن أن ليس من هو أكرم منه عليه أو أحب منه إليه ، فقابلوا حبه هذا بحب إيماني متجذّر في القلوب لا يتزعزع بل يهون أمامه الموت ، فافتدوه في مواقف الشدة والضراء والبأساء ، وهانت عليهم نفوسهم وهم ينافحون عنه ويَذُبُّون الخطر في مواطن الحرب والجهاد ، فآثروا حياته على حياتهم ونجاته على نجاتهم إلى الحد الذي أذهل الأعداء ، فهذا أبو سفيان يقول بعد أن رأى هذا الإيثار بنفسه [ ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً ] .

نقتدي به صلى الله عليه وسلم في تأكيد القيم الروحية والتربوية والوجدانية والشعورية التي هي أصل العلاقات الإنسانية ، وفي تأكيد السلوك الإيجابي البنَّاء لإعمار الكون وتعميره وعمارته ولو عند انقطاع الأمل في الحياة ، قال صلى الله عليه وسلم { إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل ] رواه أحمد . فالدين ليس عزلة عن الحياة بل هو الحياة التي يتكامل فيها العمل والعبادة بل يكون العمل فيها عبادة ، فهذا السلوك مستمد من قوله تعالى { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ اْلآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } القصص77 .

نقتدي به صلى الله عليه وسلم في التقوى والصلاح وحسن التعامل مع الناس فهذا محك الدين والإيمان لأن الدين المعاملة ، وقد علمنا ذلك ووجهنا إليه بقوله { إنكم لا تَسَعُون الناس بأموالكم ولكن ليسعْهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق } رواه الحاكم ، وقد شهد له ربه جل وعلا بحسن الخلق فقال سبحانه { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } القلم 3 ، فأخلاقه العَلِيَّة الرَضِيَّة جعلت الناس يتعلقون به أشد التعلق ، فهذه أخلاق أعظم رجل في البشرية كلها ، وهذا قلبه العظيم الذي يفيض بالحب والرحمة وفوقهما بالذوق والعلم واللطف والحكمة ، قال صلى الله عليه وسلم { إن من أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقاً } رواه البخاري ، فقد نشأ الحبيب صلى الله عليه وسلم من أول أمره إلى آخر لحظة من عمره متحلياً بكل خلق كريم مجتنباً كل وصف ذميم { فلم يكن ‏صلى الله عليه وسلم ‏سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً } رواه البخاري ، وكيف لا يكون كذلك وهو الذي قال { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } رواه البخاري ، كيف لا يكون كذلك وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه وجعله في عين رعايته وكلاءته ، قال تعالى { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا … } الطور 48 .

نقتدي به صلى الله عليه وسلم في جهاده ، فقد كان شجاعاً مقداماً في ميدان الحرب والقتال ، كان في معظم الحروب يتقدم طلائع جنوده وسراياه ، وهذا يوم أحد بأحداثه العظيمة من أوضح المشاهد ، فقد روى الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رَباعيته يوم أحد ، وشُجَّ في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله ! فأنزل الله عز وجل ليس لك من الأمر شيء } رواه مسلم ، والآية 128 من آل عمران ، والرَّباعية هي السن التي قبل الناب ويسمونها اليوم بالضحّاك ، ورباعيته التي أصيبت هي اليمنى من الفك الأسفل ونتيجة لذلك فقد جرحت شفته السفلى ، ومعنى يسلت الدم أي يمسحه ، وقد دخلت حلقات المغفر في وجنته صلى الله عليه وسلم ، فنزعها الصحابي طلحة بن عبيد الله بأسنانه فسقطت ثنيَّتاه ، واستمر نزف الدم منها ، والمِغْفَر هو زَرَدٌ وحلقات من المعدن يُنْسَجُ على هيئة الرأس ليُلْبَس تحت البيضة ، قال سهل بن سعد رضي الله عنه { … كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله وعلي بن أبي طالب يسكُب الماء بالْمِجَنِّ ، فلما رأت فاطمةُ أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم ، وكُسِرَت رَبَاعِيَتُه يومئذٍ ، وجُرِح وجهه وكُسِرت البيضة على رأسه } رواه البخاري ، والبيضة هي آلة من حديد توضع على الرأس لوقايته من الضرب والإصابات واليوم تسمى بالخوذة .

إن حسن متابعته صلى الله عليه وسلم وصدق التأسي به والاقتداء هو المحك الذي يتميز به أهل الحق والهدى من غيرهم ، فمن نصح نفسه ورغب بفلاحها ونجاحها ونجاتها فعليه بالهَدْيِ النبوي الشريف ليكون من أوليائه وليدخل في أتباعه وشيعته ، وليكون من حزب الله ، قال تعالى { إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ } المائدة 55-56 .

فلندعُ أنفسَنا في هذه الذكرى إلى نقلة نوعية وحقيقية في الإيمان والفكر ، في العمل والسلوك ، ولنتخذ الخطوة الحازمة لبناء أنفسنا ومجتمعنا من جديد ، ولنبدأ بغرس حب النبي في نفوس الناشئة والأجيال الجديدة الواعدة ، فواجبٌ على الآباء وسائر المربين أن يغرسوا فيهم هذه المحبة العاطفية والروحية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي معيار صدق الإيمان القلبي ، لأن محبته أكبر حافز على الامتثال لما جاء به ، وأصدق دليل على الإيمان الراسخ ، قال صلى الله عليه وسلم { فو الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين } رواه البخاري .

عن abdullah

شاهد أيضاً

أمريكا وإدماج ” إسرائيل “…. قوة للسعودية …. ام إستهداف لها ولفلسطين ؟

أمريكا وإدماج ” إسرائيل “…. قوة للسعودية …. ام إستهداف لها ولفلسطين ؟ بقلم / …