العدوان على المسجد الأقصى المبارك عدوان على عقيدة مليارَيْ مسلم
الخليل / شبكة فلسطين المستقبل الإخبارية
الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس
والثابت أن للمسجد الأقصى المبارك عندنا مكانة دينية عظيمة ، فهو جزء من عقيدة الأمة ، ومن دلائل ذلك :
1- أنه مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي منه عُرِجَ به إلى السماوات العُلا وإلى سدرة المنتهى ، والإسراء معجزة نبوية أجراها الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم تأييداً له ، والمعجزة عقيدة ، كيف لا تكون كذلك وقد ذكرها القرآن الكريم الثابت ثبوتاً قطعياً لا شك فيه ؟ قال تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1 ، كان من الممكن أن يتم العروج برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام في مكة ، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أموراً أخرى ، أحدها الربط بين هذين المسجدين وأرضَيْهما ربطاً عقائدياً ،
2- وهو القبلة الأولى للمسلمين في صلاتهم كما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة ، قال الصحابي البراء بن عازب رضي الله عنه { … صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ثم صرفه نحو القبلة } رواه البخاري ، وهذا برهان أهمية ومكانة بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك في دين الله تعالى ، فالتوجه إلى القبلة هو من شروط صحة الصلاة التي هي عمود الدين وثاني أركانه ، والقبلة الواحدة أيضاً هي إحدى روابط توحيد الأمة ووحدتها واتحادها ، ومن أهم عوامل جمعها وتجمّعها واجتماعها ، فلو تُرك كل مؤمن يتجه حسبما يريد لافترق الناس واختلفت وِجْهاتهم ، ففي معنى القبلة الترابط والتآخي والنصرة والوحدة ورمز الوجود والقوة .
وربما كان التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة لهدف آخر هو تخليص نفوس المؤمنين من رواسب الجاهلية ومن كل ما تعلقت به في أيامها ، قال تعالى { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } البقرة 143 ، فأراد الله عز وجل بهذه القبلة أن يظهر من يتَّبع الرسول اتباعاً صادقاً مجرداً من كل إيحاء آخر ، يتَّبعه اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة لأمر الله الذي أُرْسِلَ به ، فالمواقف في الشدائد وفي عظائم الأمور هي محكّ الإيمان الراسخ ، وهذا لأن العرب كانت تعظم البيت الحرام في جاهليتها وتعده عنوان المجد والعزة ، ولْننظر كيف كانت السدانة والسقاية والرفادة مصدر فخر وشرف وسيادة لقريش على قبائل العرب ، والسدانة هي القيام على خدمة بيت الله الحرام ، والسقاية هي تقديم الماء المحلى بالتمر والزبيب للحجاج ، والرفادة هي إطعام الحجاج على سبيل الضيافة .
3- وهو ثالث المسجديْن : أي أنه أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها ، قال صلى الله عليه وسلم { … ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ومسجدي ومسجد الأقصى } رواه البخاري ، فالحديث ربط بين المساجد الثلاثة ربطاً عقائدياً وعاطفياً ، وهو دليل على شرف البقاع التي أقيمت عليها ، وعن اجر الصلاة فيها قال صلى عليه وسلم { صلاةٌ في مسجدِي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ في ما سواه إلا المسجدَ الحرامَ ، وصلاةٌ في المسجدِ الحرامِ أفضلُ من مائةِ صلاةٍ في مسجدِي هذا } رواه البخاري ، وعن المسجد الأقصى المبارك وأجر الصلاة فيه قال { … صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو … } رواه الحاكم وصححه الذهبي
وبالنظر إلى هذه المكانة العقدية للقدس والمسجد الأقصى المبارك في دين المؤمنين وإيمانهم فقد انعكست هذه المكانة على موقفهم من القضية الفلسطينية العادلة ، وعلى الرغم من القضايا الطائفية والقومية والفكرية التي تمت إثارتها اليوم في أقطار العالم العربي والإسلامي لصرف أبناء الأمة عن القضية الفلسطينية ؛ إلا أنها ما زالت قضيتهم الدينية والوطنية والقومية تماماً كما هي للفلسطينيين ، وما زالت القضية المركزية للأمة كلها ، فهي مفجّرة الصراع مع الاحتلال الصهيوني لأرضها المقدسة وهي بؤرته الرئيسية لأنها تمس بعقيدتها ودينها ، لذا كانت هذه القضية دوماً في الصدارة من اهتمامات الأمة ودافعاً لجهادها في سبيل الله بهدف الحفاظ على هويتها العربية الإسلامية الأصيلة التي تحاول إسرائيل وداعموها تغييرها واستئصالها بكل ما أوتيت من قوة وإمكانيات .
فمثلاً لا يكاد يمر يوم إلا وتقوم شخصيات سياسية ودينية بارزة وبرلمانية ووزارية صهيونية في حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة وأعداد غفيرة من المغتصبين باقتحام مكثف للمسجد الأقصى المبارك بقرارات حكومية ومؤخراً بقرارات قضائية ، ويقومون بتدنيسه وتأدية طقوسهم التلمودية في باحاته علناً ، يجري ذلك بحماية قوات الاحتلال الاسرائيلي وأذرعها العسكرية العديدة ، ويقوم الجنود ورجال الشرطة الاحتلالية أنفسهم باقتحامات روتينية يومية لباحات المسجد الأقصى المبارك يعتدون خلالها على المصلين ويقومون بإخلاء المعتكفين والمرابطين منه ، وتعمل السلطات الاحتلالية جاهدة لإصدار تشريعات وأحكام قضائية تسمح لليهود باقتحامه وأداء صلواتهم وتضرعاتهم الصامتة والجهرية فيه بشكل يومي ، وتحمل هذه الاقتحامات دلالات ومؤشرات وعلامات لمؤامرات خفية وأخطار محدقة به .
وهذا عدوان آخر يمثل امتداداً لانتهاكات سلطات الاحتلال لحرمة الأماكن المقدسة ولحق أبناء شعبنا الفلسطيني في ممارسة شعائرهم الدينية وحرية عبادتهم في مسجدهم ، وتهدف هذه الاقتحامات المكثفة وبالأخص في الفترات الأخيرة إلى تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك بالقوة الغاشمة ، وذلك من خلال اتباع سياسة فرض الأمر الواقع التي كثيراً ما تنتهجها إسرائيل بكل أطياف حكوماتها السابقة والحالية لتمرير مخططاتها الخبيثة الممنهجة ، حيث كانت تلك الحكومات المتعاقبة تدعم الاقتحامات وتحميها لتستخدمها كورقة رابحة في الانتخابات من خلال استرضاء اليمين المتطرف ، واستمرت في هذه السياسة حتى وصل هذا اليمين العنصري المتطرف إلى سدة الحكم ، ولهذا يجدر بالأمة استشعار الحقيقة الواقعية بأن المسجد الأقصى المبارك في خطر أكثر من أي وقت مضى : هويته وقواعده وبنيانه .
والوضع القائم الذي أشرتُ إليه هو مفهوم يعني الحال الذي كان عليه المسجد الأقصى المبارك منذ تحريره من احتلال الفرنجة في عام 642 للهجرة (1244 – 1245 للميلاد) على يد سلطان مصر نجم الدين أيوب رحمه الله مروراً بالعهود الإسلامية اللاحقة وحتى وقوعه في قبضة الاحتلال الصهيوني في عام 1967 بأنه مسجد خالص للمسلمين وحدهم ، وقد تعمق هذا المفهوم في العصر الحديث بصدور قرار بعثة عصبة الأمم المتحدة عام 1930 (لجنة شو) التي تشكلت عقب ثورة البراق عام 1929 والتي قررت بعد التحقيق في أحداثها [ أنّ المسجد الأقصى المبارك بما فيه حائط البراق هو ملك للمسلمين وحدهم ، وأنّ الرصيف الكائن أمام الحائط هو للمسلمين أيضاً ] وأكدت اللجنة أن سماح المسلمين سابقاً لليهود بالصلاة على هذا الرصيف في أوقات محددة يكون على بعد خمسين متراً فقط من حائط البراق إلا أنه [ يُمْنَعُ جلب أي خيمة أو ستار أو ما شابههما من الأدوات إلى المكان لوضعها هناك ولو لمدة محدودة من الزمن ]
وبما أن هذه اللجنة الدولية قد انبثقت عن عصبة الأمم المتحدة فقراراتها تعتبر بمثابة تجسيد للقانون الدولي ، وبعد سيطرة الاحتلال على مدينة القدس ومقدساتها عام 1967 أصدرت هيئة الأمم المتحدة (وريثة عصبة الأمم) ومجلس الأمن الدولي قرارات كثيرة جداً مشابهة لقرار لجنة شو في نصوصها ومضمونها ومآلاتها ولكن كان لها المصير ذاته ، فسلطات الاحتلال لم تحترم هذه القرارات أبداً ولم تنفذها ولم تأبه لها تماماً كما فعلت بقرار عصبة الأمم ، بل بدأت بتغيير وضع المسجد الأقصى المبارك شيئاً فشيئاً منذ اليوم الأول لاحتلال مدينة القدس حتى بلغ الأمر فيه ما بلغ اليوم ، فالمسلمون أصحاب الحق الأصليين فيه يُمْنَعون منه بتقييد أعمار من يسمح لهم بدخوله والصلاة فيه ، وبإبعادهم عنه لفترات طويلة بقرارات قضائية ظالمة ، وبإعاقة وصولهم مدينة القدس من خلال إحاطتها بجدار الفصل العنصري وما فيه من بوابات يسيطر عليها الاحتلال ويتحكم في فتحها وإغلاقها والمرور منها ، لعزلها عن المدن الفلسطينية المحتلة وعن أهلها للاستفراد بها وبالمسجد الأقصى المبارك لبسط الهيمنة الكاملة عليهما ومن ثَمَّ تغيير هويتهما وتهويدهما ،
ولعل تفريغ المدينة المقدسة من سكانها الفلسطينيين كان من الأهداف الخفية التي سعت إليها سلطات الاحتلال في الماضي بوسائل شتى وبقرارات متنوعة وممارسات وإجراءات باطلة قانوناً ، لكنها أصبحت اليوم تعلن ذلك صراحة وعلى الملأ ، فسكوت العالم وضعف الأمة وتفرقها منحها الوقاحة والجرأة في ذلك ، بل ازدادت عربدةً واستقواء مع تهافت العرب والمسلمين على تطبيع العلاقات معها على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري وغيرها .
إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي وهي الخارجة عن القرارات الدولية وعن كل المبادئ التاريخية والقانونية والأخلاقية والإنسانية على مرأى ومسمع من العالم الصامت وأرباب القانون فيه والذين لا يحركون ساكناً ، إن هذه السلطات خرقت الوضع القائم منذ احتلال عام 67 بما يخالف الشرائع الإلهية والمواثيق الدولية التي يُفْتَرَضُ أنها ما زالت سارية إلى اليوم ، فالمسجد الأقصى المبارك مسجد خالص للمسلمين ولا حق فيه لليهود ولا لغيرهم ، فلا يجوز لسلطات الاحتلال التدخل في شؤونه ، يضاف إلى ذلك عدم جواز ازدواجية العبادة في مكان واحد لأتباع الأديان المختلفة كما هو مجمع عليه ، فهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم فتح القدس رفض الصلاة في كنيسة القيامة وصلى خارجها .
وعلى الرغم من أن الاقتحامات الصهيونية للمسجد الأقصى المبارك يومية ؛ إلا أن فترة الأعياد العبرية التي يحتفلون بها في هذه الآونة يعتبر موسم العدوان الأعتى على مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الأعياد أكثر من مائة يوم في السنة بالإضافة إلى أيام السبت ، لذا يُخْشى من طوفان الاقتحامات الذي نشهده حالياً على وجه الخصوص أن يغرق المنطقة في حروب دينية لما فيه من استفزاز وتحدٍ صارخ لمشاعر المسلمين الدينية ، لأنها عدوان على جزء من عقيدتهم ورمز كرامتهم لا يسكتون عليه ، وهو أيضاً تصعيد خطير تدعمه سلطات الاحتلال لفرض التقسيم الزماني للمسجد الأقصى المبارك وتكريسه تمهيداً لتقسيمه مكانياً على غرار ما فعلت في الحرم الإبراهيمي الشريف بمدينة الخليل بعد مجزرة الحرم في عام 1994 .
والأمة لا ترضى أبداً بهذا العدوان على عقيدتها ودينها ، فعلى مر التاريخ الإسلامي كان تعرض فلسطين والقدس للغزو يستنهض همم أبناء الأمة للجهاد ، فكانوا يهبون لنجدتها ونصرة أهلها وتحرير ترابها ، واليوم لو أن الشعوب وأبناء الأمة تُرِكَتْ لتختار الطريق بنفسها ولو أنها أُطْلِقَتْ من عقالها لتمكنت من تحرير أرض فلسطين وتطهيرها من دنس الاحتلال ، فهم موقنون بأن الضعيف لن يبقى ضعيفاً إلى الأبد ، ومثله القوي الذي لن يبقى قوياً إلى الأبد ، وقد علمنا ربنا عز وجل هذه السنة الكونية في القرآن الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، قال تعالى { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } فصلت 15 ، فأين عاد وقوتهم ؟ لقد أهلكهم الله وأزال وجودهم كله من الأرض ، هلكوا ومَنْ لحقهم من المكذبين المستكبرين وطردوا من رحمة الله ، قال تعالي عن هذه النهاية { … أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } هود 60
وفي الختام فإنني أجدد التأكيد على حق المسلمين في مدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى المبارك ، فإن الحق قديم لا يَخْلَقُ ولا يبطله شيء ولا ينهزم مهما اعترى أصحابه من ضعف واستضعاف ، وأجدد تأكيد إسلامية المسجد الأقصى المبارك بكل مكوناته ومساحاته داخل السور والبالغة (144) مائة وأربعة وأربعين دونماً ، فهذه الهوية قدرها الله سبحانه وتعالى وقررها قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من فوق سبع سماوات في مطلع سورة الإسراء ، وخلّدها سبحانه بقرآن يتلى أبد الدهر وإلى ان يرث الله الأرض وما عليها .