السيادة على المسجد الأقصى المبارك إسلامية بقرار رباني

السيادة على المسجد الأقصى المبارك إسلامية بقرار رباني

الخليل / شبكة فلسطين المستقبل الإخبارية.

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

ذكرى أليمة في قلوب أبناء شعبنا الفلسطيني وفي قلوب أبناء الأمة جميعاً تمر بنا كل عام ، ذكرى جريمة نكراء طالت المسجد الأقصى المبارك عنوان عزة الأمة وكرامتها وشرفها ، ودُرَّة مقدساتها ومسرى رسولها محمد صلى الله عليه وسلم الذي تقررت السيادة الإسلامية عليه بقرار رباني ، قال تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } الإسراء 1 ، جريمة تخطَّى بها السائح اليهودي مايكل دينيس ذو الجنسية الأسترالية كل القوانين والمواثيق ، فأحرق بِلَظَى كراهيته وسواد فعلته قلوب الأمة وأرواحها .

ذكرى لا تزال أحداثها ماثلة أمام نواظر المقدسيين والفلسطينيين إلى اليوم ، يستحضرون خلالها مشاهد النيران وألْسنة اللهب التي أشعلتها يد الحقد المسعور والتطرّف الممقوت فأتت على مساحة كبيرة من سقف المسجد القبلي ذي القبة الرصاصية ، وعلى منبر البطل صلاح الدين رمز تحرير بيت المقدس من دنس الاحتلال الإفرنجي ، ورمز ارتباط القادة المسلمين بالقدس وبالمسجد الأقصى المبارك .

ففي صبيحة يوم الخميس السابع من جمادى الثانية عام 1389 للهجرة النبوية ، الموافق 21/8/1969م استيقظ العرب والمسلمون المكلومون منذ عامين بضياع بقية أرض فلسطين واحتلالها ، استيقظوا على جرح جديد ونكبة أخرى ، فقد امتدت اليد الغادرة للمجرم الإرهابي المتعصّب إلى قبلتهم الأولى فأضرم فيها النيران بعد فشل محاولته ذلك قبل عام كامل أي بتاريخ 21/8/1968 ، ولكن بفضل يقظة حراس المسجد يومها باءت محاولته الحاقدة تلك بالفشل ، وتظاهرت سلطات الاحتلال الغاشم بإلقاء القبض عليه ، ولكنها ما لبثت أن أطلقت سراحه ليعاود جريمته من جديد في العام التالي .

وكعادتها سارعت سلطات الاحتلال إلى التنصل من المسؤولية فنسبت مرتكب الجريمة إلى الجنون وادعت إصابته باختلال القوى العقلية لتغطي على الحرائق الفعلية المبرمجة والخطط التآمرية المنظمة التي يقوم بها العقلاء والحكماء من دهاقين ساستها ، فمنذ خضوع مدينة القدس للاحتلال بدأت تعيث فيها يد الغاصب الصهيوني تهويداً وتبديلاً لهويتها الإسلامية وطمساً لمعالمها التاريخية ، حتى جاءت هذه الجريمة التي استفزت مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، فحظيت بحماية سلطات الاحتلال الغاشم التي أعاقت عمليات الإطفاء وتباطأت في محاولات الإنقاذ .

أما أبناء الشعب الفلسطيني فقد هبوا من كل مكان لنصرة مسجدهم ، وانطلقت سيارات الإطفاء من مدن نابلس وبيت لحم والخليل وغيرها ، وهرع أهل البلدة القديمة في القدس إليه سراعاً يحملون الماء بأيديهم لإخماد النيران ، وفي اليوم التالي أدى آلاف المسلمين صلاة الجمعة في الساحة الخارجية للمسجد الأقصى المبارك ، وعمت المظاهرات الغاضبة مدينة القدس وسائر المدن الفلسطينية احتجاجاً على هذا التعدي السافر على كل القوانين والقيم والأعراف . أما جماهير الأمة فقد غضبت وثارت لانتهاك حرمة مقدساتها والمساس بأماكن عبادتها والاعتداء على عقيدتها ، فانطلقت المسيرات والمظاهرات في أرجاء العالم الإسلامي .

أما على المستوى الرسمي فقد جاءت ردود الفعل العربية والإسلامية باهتة ضعيفة مخيبة للآمال ، فأقصى ما قامت به اجتماع زعمائها خلال شهر من الكارثة في مؤتمر قمة لهم في المغرب ، قرروا فيه تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضمَّن ميثاقها العهد على السعي بكل الوسائل السياسية والعسكرية لتحرير القدس الشريف من الاحتلال الصهيوني .

ثم أنشئت لجنة القدس عام 1975م (التي انبثقت عن منظمة المؤتمر الإسلامي) بهدف متابعة تنفيذ القرارات التي تتخذها المنظمة والهيئات الدولية الأخرى التي تؤيدها أو تتماشى معها ، وبهدف الاتصال والتنسيق مع أية هيئات أخرى ، واقتراح المناسب على الدول الأعضاء لتنفيذ المقررات وتحقيق الغايات واتخاذ ما تراه من إجراءات .

ويرمي إنشاء لجنة القدس أيضاً إلى تنفيذ جميع قرارات المنظمة المتعلقة بمواضيع الصراع بين الأمة والكيان الغاصب نظراً للترابط الجذري بينه وبين قضية القدس وفلسطين التي لها المركزية والأولية لدى الأمة .

توالى عقد المؤتمرات العربية والإسلامية من أجل القدس ومن أجل المسجد الأقصى المبارك لكن دون صدور أية خطوات عملية عنها لتحريره وإنقاذه من الأسر ، فتجرأ المعتدون على مواصلة انتهاكاتهم المتوالية ضده وضد مدينة القدس إلى يومنا هذا وبصور وأشكال أكثر حدة وعدوانية وعلى الملأ من غير ان يحسبوا للأمة وغثائها أي حساب .

وعلى المستوى العالمي فقد كان من المنتظر أن تحدث هذه الجريمة الحاقدة دوياً في أرجائه ، وأن يكون لمنظماته القانونية والحقوقية موقف واضح يسهم في الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك وحمايته من أي مساس بحرمته وقدسيته أو عدوان على بنيانه ، ليس فقط لكونه دار عبادة تمنع القوانين والتشريعات الدولية التدخل في شؤونه أو ازدواجية العبادة فيه ؛ بل بوصفه أيضاً صرحاً معمارياً وأثراً حضارياً وجزءاً من التراث الإنساني .

وبالفعل فقد أدان العالم هذا العدوان واستنكره وامتعض منه ، ولكنه لم يتمكن من تطبيق قراراته الدولية الهزيلة التي أصدرها على استحياء ضد سلطات الاحتلال ، ولم يأبه يوماً لعدم الْتزامها بها أو لرفضها تنفيذها ، وهذا نهجه المعتاد في قضايا الأمة الإسلامية والعربية ، ولسنا مجحفين في تقرير هذه الحقيقة السلبية ، فقد رأينا موقف هذا العالم من تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان ، وفي كل يوم تطلع فيه الشمس نرى وقوفه إلى جانب المحتل الغاصب وتبرير أفعاله الهمجية على المدنيين العَّزل ، ونشاهد سكوته عن انتهاكات سلطات الاحتلال الغاشمة لحقوق الإنسان الإنسان الفلسطيني ، ونلمس عجزه الدائم عن انتقاد جرائمه الإرهابية ومجازره التي لا تحصى في فلسطين ، ومن أوضح الأمثلة على سلبيته العلنية موقفه تجاه الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا وتبريراته العنصرية بالتفريق بين الشعب الفلسطيني والشعب الأوكراني .

لم تكن هذه الجريمة الأولى ضد المسجد الأقصى المبارك ولن تكون الأخيرة ، فمنذ زمن بعيد بيّتت إسرائيل نواياها الخبيثة للنيل من القدس والأقصى ، ونعلم يقيناً أن عدوانها عليه متواصل لا يتوقف ، والواقع يصدق هذا اليقين ، فهو يتعرض باستمرار لمخاطر حقيقية وتهديدات جدية ، فها هو يتعرض للاقتحام اليومي من الجماعات اليهودية المتطرفة والرموز الدينية والسياسية والبرلمانية للكيان الغاصب ، وبدعم حكومي كامل وتحت حماية الأذرع العسكرية الاحتلالية ، وها هي محاولة ذبح البقرة الحمراء حسب أساطيرهم ومزاعمهم التوراتية بهدف إقامة الهيكل المزعوم والهيمنة التامة وبسط السيادة الإسرائيلية عليه توشك على الوقوع إلا أن يتغمده الله عز وجل بحفظه ورعايته على أيدي المرابطين والمخلصين من أبنائه .

ودليل جدية تلك المخاطر تعدد وتجدد المؤامرات المتواصلة ضده ، وفي كل مرة يدافع عنه الفلسطينيون وحدهم حاسرين من السلاح دفاعاً عملياً حقيقياً بكل ما أوتوا من قوة ، ويحمونه بدمائهم وأرواحهم ، وبالمواظبة على شد الرحال إليه للصلاة فيه والحضور الدائم في ساحاته والتصدي لكل تلك المؤامرات وإفشالها ، وبإصرارهم على تحدي جميع الإجراءات القمعية والممارسات الاحتلالية التي تعيق الوصول إليه ، وبالوقوف إلى جانب حراسه وسدنته العزّل في مواجهة الاحتلال بصدورهم العارية .

والآن وبعد مرور أكثر من خمسة عقود على الجريمة النكراء فللشعب الفلسطيني أن يتساءل : هل كانت أمته على مستوى الحدث ؟ هل كانت على مستوى المسؤولية ؟ إننا على يقين راسخ بأن لمسجدنا الأقصى المبارك رباً يحميه وللقدس رباً يرعاها ، وبأن لها أبناء مرابطين وحراساً مخلصين شرَّفهم الله بأرفع وسام فكانوا في الخندق الأول يفتدونها بالمهج والأرواح ، لكن هذا لا يعفي الأمة أبداً من مسؤوليتها في الدفاع عن الأقصى والقدس وحمايتها ومؤازرة أهلها .

ذاك كان الحريق الآنيّ الذي بذلت جهود جماعية عاجلة وفورية لإخماده ، والدمار الواسع الذي استغرق عقوداً ثلاثة وأكثر لإعادة إعماره ، أما الحريق المستمر الذي ما زال مشتعلاً في المسجد الأقصى المبارك وفي مدينة القدس منذ احتلالها فيتمثل في حرق تاريخها الإنساني ، وفي محاولة تغيير مشهدها التاريخي واستبدال هويتها العربية الإسلامية بهوية المحتلين الغاصبين ، وبطمس معالمها الحضارية لتهويدها ، وأدوات الاحتلال في ذلك متنوعة وغير مسبوقة .

يضاف إلى ذلك التطهير العرقي الذي يمارس ضد أهلها الشرعيين بسحب هوياتهم وهدم بيوتهم ومصادرة ممتلكاتهم لإقامة البؤر الاستيطانية في مكانها ، وبفرض الضرائب الباهظة للتضييق عليهم وتهجيرهم القسري منها ، وعلى الرغم من ذلك ما زالوا منزرعين وثابتين فيها ثبات الشجر ، وجذورهم المقدسية العَصِيّةِ على الاقتلاع ما زالت ضاربة في أعماقها التاريخية العريقة ، لكنهم يفتقرون إلى الدعم والمناصرة والإسناد من أبناء أمتهم العربية والإسلامية ، وعيونهم ترنو إلى الأفق الذي تلوح منه بشائر النصر والنصرة ومن بعدها التمكين ، فهذا من أوجب واجبات الأمة تجاههم ، قال تعالى { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ … } الأنفال 72 .

أما التحوُّر والتغيُّر تجاه المحتل الغاصب لأرض فلسطين الإسلامية ، وتحول بعض حكومات الدول العربية والإسلامية من الصمت إلى التطبيع الرسمي المتسارع معه والاعتراف به والتسابق في ذلك فكان أقسى طعنة وجهت إلى الفلسطينيين ، وكان شر قِتْلة ترتكب بحقهم ، فهذا ما شجع سلطات الاحتلال الغاشمة على ممارساتها الغادرة وتماديها ضدهم ، فتضاعفت معاناتهم وفقدوا بذلك العمق الاستراتيجي العربي والإسلامي لقضيتهم العادلة ، كيف وقد كانت هي القضية المركزية الأولى للأمة كلها قبل هذا التراجع الذي تشهده اليوم ؟

ولكننا لا نفقد الأمل أبداً في أبناء الأمة فالخير فيها إلى يوم القيامة والجهاد ماضٍ لا تتوقف عنه حتى تقوم الساعة ، فالقضية الفلسطينية ما زالت قضيتهم لأنها فرع عن عقيدتهم ودينهم ، والدفاع عنها هو أمر ربهم مفروض عليهم لن يطول تقصيرهم في تطبيقه وتنفيذه ، وسيأتي عليهم يوم ينهضون فيه ويشدون عضد إخوتهم أبناء الشعب الفلسطيني الصابر المرابط على أرضه ، وسيسهمون معه في تحرير أرض فلسطين المقدسة من دنس الاحتلال وما ذلك على الله بعزيز ، قال تعالى { فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } المعارج 5-7 .

عن abdullah

شاهد أيضاً

أمريكا وإدماج ” إسرائيل “…. قوة للسعودية …. ام إستهداف لها ولفلسطين ؟

أمريكا وإدماج ” إسرائيل “…. قوة للسعودية …. ام إستهداف لها ولفلسطين ؟ بقلم / …