في ذكرى الهجرة النبوية

في ذكرى الهجرة النبوية

الخليل / شبكة فلسطين المستقبل الإخبارية

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

في دار الأرقم بمكة المكرمة بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تبليغ رسالة ربه ، اتَّخذها قلعة للدعوة ومقراً للصفوة وطلائع للنهضة ، فكانوا أجيال النصر المبشرة بمستقبل مشرق للإنسانية ، مستقبل يفيض بالكرامة والحرية ليشمل أبناءها جميعاً ، لكن رؤوس الكفر رفضوا دعوة الحق عناداً واستكباراً ولاحقوا دُعاتِها جَهاراً نهاراً ، وحاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرُّوه للخروج من مكة مهاجراً رغماً عنه ، فصدقت توقُّعات ورقة بن نوفل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء نزول الوحي { يا ليتني فيها جَذَعاً ، ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك ، فقال صلى الله عليه وسلم : أَوَ مخرجيَّ هم ؟ فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلاَّ أوذي } رواه البخاري .

تعددت محاولات قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم لإقناعه بإحداث تعديلات يسيرة على الدعوة بعد عجزها عن التأثير عليه للتخلي عنها ، فحاولت فتنته عما أوحِيَ إليه ، قال تعالى { كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } الإسراء 73 ، وحاولت مقايضته بأن يعبدوا هم ربه عاماً ويعبد هو آلهتهم عاماً حتى يتبيّن الدين الحقّ فيتبعوه جميعاً ، قال تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } الكافرون 1-3 ، وطلبوا منه فصل مجالس الكبراء عن مجالس الفقراء لكنه رفض ذلك ، قال تعالى { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تَعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطاً } الكهف 28 ، فشلت هذه المحاولات وكثير غيرها قبلها وبعدها .

ضاقت قريش بمحمد وبأتباعه الثابتين ذرعاً كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق لأنها لا تملك لها دفعاً ولا تطيق عليها صبراً ، ومع تزايد المؤمنين بالدين الجديد وبدعوة التوحيد أدركت خطورة المرحلة القادمة ، فبدأت تخطط للخلاص من الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع كبراؤها في دار الندوة يتشاورون ، وقد صور لنا القرآن الكريم مؤامرات قريش فقال تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } الأنفال30 ، إنها قصة تذكرنا بقول عمه ونصيره أبي طالب له { أتدري ما يأتمر به قومك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : يريدون أن يسجنوني ويقتلوني ويخرجوني ، فقال له من أخبرك بهذا ؟ قال عليه الصلاة والسلام : ربي ، قال عمه : نعم الرب ربك … } ، وهي أيضاً صورة ساخرة من المتآمرين لا تختلف أبداً عن السخرية من فرعون الذي ذبح ذكور بني إسرائيل طلباً لسيدنا موسى عليه السلام لكن الله تعالى رباه في حضنه وأنشأ في قصره ، إنها قدرة الله التي تبطل كيد البشر لأن كيدهم مهما عظم فهو ضعيف أمام تدبير الله ومشيئته .

مكر كبراء دار الندوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وتداولوا الرأي في الخلاص منه ، فقرروا تقييده وحبسه حتى يموت ، لكن مخافة إنقاذ أتباعه له مستقبلاً جعلتهم يتحولون إلى التفكير في إخراجه من مكة منفيّاً شريداً طريداً ، لكنهم عدلوا عن هذا الرأي خشية عودته إليهم مع أصحابه وأنصاره فيهاجمهم في عقر دارهم ويجتثّهم ، فاستقر رأيهم أخيراً على تصفيته جسدياً فقرروا اغتياله ، وأسندوا هذه المهمة إلى فتية من القبائل جميعاً ليتفرق دمه بينها فيعجز قومه عن قتال العرب ثأراً له فيرضون بالدية وينتهي الأمر ، وهذا هو أسلوب الباطل العاجز عن الحجة ، أسلوب من لا يملك في مواجهة الحق غير التلويح باستخدام القوة .

وبدأت قريش بالتنفيذ ، ولكن الله عز وجل لا يترك حبيبه ولا يسلمه إلى عدوه ، فأوحى إليه بالهجرة ، قال صلى الله عليه وسلم { أُرِيتُ دار هجرتكم ذاتِ نخلٍ بين لابَتَيْن- أيْ بين حَرَّتَيْن – } رواه البخاري ، ثم كانت مبايعة أهل يثرب له على الإيمان به وحمايته ونصرته إن قدِمَ إليهم ، فأذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى يثرب التي جعلها الله لهم داراً وقراراً وجعل أهلها لهم إخواناً وأنصاراً ، فهاجر من استطاع أن يهاجر من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أما رسول الله فقد بقي في مكة ينتظر الإذن بالهجرة حتى أذن له ربه بذلك في شهر ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة للبعثة فهاجر ، فقال مخاطباً مكة حزيناً لفراقها { والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خرجت } رواه الترمذي .

بدأت رحلة الهجرة النبوية شاقة خرج فيها صلى الله عليه وسلم وحيداً إلاَّ من الصّدّيق أبي بكر صاحبه الذي أحبه أكثر من نفسه ، خرج بلا جيش ولا عُدّة ، ورجال قريش في إثره يتعقبونه فمكثوا على بابه ينتظرون ، لكنه الرسول المؤيّد بقوة ربه خرج من بينهم وهم لا يشعرون ولا يرون ، فاتجه إلى غار ثور للتمويه عليهم فهذا الغار ليس على طريق يثرب بل في اتجاه آخر ، فوجئت قريش بأنها تحرس علياً رضي الله عنه الذي كان نائماً في فراشه ، فخرجت في إثره مستعينة بمقتفي الأثر ووصلت الغار ، فجزع أبو بكر ليس على نفسه بل على حبيبه ، وأنَّى لهم أن يصلوا إليه وهو بمعية الله عز وجل وبعينه ، قال أبو بكر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم { لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه ، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما } رواه البخاري ، قال تعالى في ذلك { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } التوبة 40 ، فلما رأى رجال قريش نسيج العنكبوت وعش الحمام على باب الغار أيقنوا أن أحداً لا يمكن أن يكون في الداخل فانصرفوا مهزومين ، وكان الظهور للدعوة بنجاة رسولها والفرح العظيم لأهل يثرب بوصول خير داع إلى أرضها .

لم تكن الهجرة رحلة رفاهية أو سياحية ، ولم تكن هرباً من الوطن ومن رسالة الدين ودعوته ، بل كانت للحق وفي سبيل الحق ، كانت ثمرة إكراه المؤمن الذي كان يعيش ممتد الجذور في وطنه وأرضه على إهدار مصالحه والتضحية بأمواله ودياره للنجاة بدينه بعد أن اشتد الكرب به وبنبيه صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن سامه عدوه وسام أخوانه سوء العذاب ، فانطلق الواحد منهم حاملاً أهله وولده رضيَّ الضمير إلى حيث يريد الله ورسوله .

كانت الهجرة معجزة تاريخية ، فلم يصدق المشركون خروجه صلى الله عليه من بينهم على الرغم من تواصل حصارهم له ودوام مُرابطتهم أمام مكان إقامته ، كانت نصراً مؤزراً من الله تعالى لعبده الأعزل من كل قوة مادية إلاَّ من التأييد الإلهي والسكينة الربانية التي ملأت قلبه طمأنينة ورضا ، لذا كانت الهجرة نقطة تحوّلٍ فاصلة في حياة المسلمين غيّرت وجه تاريخهم ومستقبلهم لذا فهي جديرة باعتمادها مبدأ لتأريخهم وقيام دولتهم .

رفع الله سبحانه منزلة المهاجرين ودرجاتهم ، قال تعالى { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخرةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } النحل 41 – 42 ، وشهد لهم سبحانه وتعالى بالإيمان الحق ، فهم الذين بذلوا كل ما يملكون وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فلم يهاجروا رهبة من الكفر ولا رغبة في الدنيا بل رجاء رحمة الله وابتغاء فضله ورضوانه ونصرة لدينه ورسوله ، قال جل وعلا { وَالَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الآنفال 74

وأنوه هنا بأمر مهم جداً وهو أن الوجود الإسلامى فى مكة المكرمة استمر بعد الهجرة النبوية ولم يتوقف ، وتمثل ذلك بالمستضعفين من المسلمين الذين حبستهم قريش جبراً وعذبتهم في دين الله قهراً فلم يملكوا حيلة ولم يستطيعوا سبيلاً إليها ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم دائم الدعاء لهم في القنوت ، فكان { إذا رفع رأسَه مِنَ الرَّكْعة الآخِرَة يقول اللَّهُمَّ أنْجِ عَيَّاشَ بن أبي ربيعةَ ، اللَّهُمَّ أنْجِ سَلَمَة بن هشامٍ ، اللَّهُمَّ أنْجِ الولِيد بن الوليد ، اللَّهُمَّ أنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المؤمنين } رواه البخاري ، وهؤلاء الصحابة الثلاثة رضي الله عنهم كانوا من بين المستضعفين في مكة .

ورأينا في أثناء صلح الحديبية مدى تمسك المشركين ببقاء المستضعفين واشتراط إرجاع من هاجر منهم سراً إلى المدينة بغير علم قريش ، ورأينا بالمقابل استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الشرط لعلمه بدورهم العظيم في تحدي المشركين وإضعاف تصديهم للدعوة ، فتنامت قوة هؤلاء المستضعفين ونجحوا في مقاومة المشركين على الرغم من الاضطهاد والتعذيب ، وهاجر كثير منهم وسط التضييق والإرهاب ، ومنهم من استشهد في الطريق قبل بلوغ المدينة.

وكان آخر المهاجرين العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد هاجر بأهله فى رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، وفى الطريق لقى النبى مع جيشه يريد فتح مكة بعد نقض قريشٍ صلح الحديبية ، فواصل أهله الهجرة ورجع هو مع النبى وشهد فتح مكة ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم { أنت آخر المهاجرين كما أنني آخر الأنبياء } رواه الطبراني .

كانت الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة فرضاً متعيناً على المسلمين لأنهم كانوا في قلة وذلة ويفتتنون عن دينهم ، فلما فتح الله تعالى مكة على رسوله وصارت دار إسلام وأمن لم يعد للهجرة منها سبب يوجبها ، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الهجرة { لا هجرة اليوم ، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يُفتن عليه ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام والمؤمن يعبد ربه حيث شاء … } رواه البخاري ، ولو استمر وجوب الهجرة من مكة بعد الفتح لخلا البيت الحرام من المسلمين حوله وفي ذلك ضرر ، فمن سيقوم بعمارته وسدانته ؟ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا } رواه البخاري ، ومعنى عبارة ” ولكن جهاد ونية ” بأن من فاتته فضيلة الهجرة فأمامه باب مجاهدة الكفار لإعلاء كلمة الله وإظهار دينه ففيها تحصيل للخير وتعويض له عما فاته من المكانة والثواب .

وحيث إن الهجرة تعني مفارقة دار الكفر والشرك إلى دار الإسلام فإن هجرة المسلم المقيم في غير دار الإسلام على دينه تبقى قائمة ومفتوحة بحقه وقد تكون أفضل من البقاء ، قال صلى الله عليه وسلم { أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أَظْهُرِ المشركين ، قالوا يا رسول الله ولم ؟ قال: لا تَرَاءَى نارَاهما } رواه أبو داود ، ومن معاني “لا تراءى ناراهما” أي أن ناراهما مختلفتان : هذه تدعو إلى الله تبارك وتعالى ، وهذه تدعو إلى الشيطان فكيف تتفقان ؟ وهذا من باب سد الذرائع وقطع السبل إلى الردة والإلحاد والشرك وارتكاب المعاصي والآثام لكثرة مشاهدتها في كل الأوقات ، وقد يصل حكم الهجرة من ديار الكفر في هذه الحالة إلى الوجوب إذا خاف المسلم على دينه ولم يتمكن من إظهار شعائره ،

إن الهجرة النبوية مناسبة عزيزة وذكرى عظيمة تملأ قلوب أبناء الأمة بالبشرى ، وتخلع من أفئدتهم اليأس والقنوط والإحباط ، وتوجههم إلى التوكل على الله حق التوكل لتنفض عنهم غبار العجز والتواكل ، ولكن لا ينبغي أن يكون الاحتفال بهذه المناسبة قصصاً تاريخياً نملأ بها فراغ مناسبة محددة ثم تنسى دون أن تؤثر في النفوس ، ولا ينبغي لها أن تكون عادة سنوية تُردّد على ألسنة الخطباء والمحاضرين ، بل يجب أن تكون فقهاً لمعنى الهجرة واستخلاصاً للعبر من سيرة المصطفى واقتداء بصبره وثباته على الحق في سبيل دعوته .

ولئن كان قدرنا ألاَّ نحظى بمرتبة الهجرة وفضائلها ككل الأجيال التي تلت طبقة المهاجرين فقد فتح الله تعالى لنا أبواب الهجرة المعنوية والقلبية والسلوكية ، فقد قال صلى الله عليه وسلم لنا { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه } رواه البخاري ، فالمهاجر الممدوح هو الذي جمع إلى هجران وطنه وعشيرته هجران ما حرمه الله تعالى عليه ، فمجرد ترك بلد الشرك ومغادرتها إلى دار الإسلام مع الإصرار على المعاصي ليست بهجرة كاملة ، فالمهاجر بحق هو الذي لم يقف عند الهجرة الظاهرة فقط ، بل الذي هجر كل ما حرمه الله ونهى عنه .

عن abdullah

شاهد أيضاً

أمريكا وإدماج ” إسرائيل “…. قوة للسعودية …. ام إستهداف لها ولفلسطين ؟

أمريكا وإدماج ” إسرائيل “…. قوة للسعودية …. ام إستهداف لها ولفلسطين ؟ بقلم / …